لقد واصل الكريملن بعث رسائله المنتظمة إلى المواطنين الروس، عن ضيقه وتبرمه بالنشاط السياسي المستقل. وبالنتيجة، فقد أصبحت ممارسة العمل السياسي في الشوارع العامة، على درجة كبيرة من الخطر. ولذلك فإن على كل من يشارك في تظاهرة شعبية عامة، أو موكب لا ترحب به الحكومة الروسية، الاستعداد التام لتحمل التبعات والنتائج المترتبة عن مشاركته هذه. وتُبدي السلطات قلقاً إزاء الانتقال السلمي للسلطة عقب إجراء انتخابات هذا العام والعام المقبل، إلا أن كثرة القيود المفروضة على حرية التجمع والتعبير في الشوارع، تنجم عنها مشكلات وتعقيدات سياسية كثيرة اليوم، خاصة إثر النجاح الملحوظ الذي حققته المعارضة للمرة الأولى خلال السنوات الماضية كلها، في حشد الآلاف من المتظاهرين والدفع بهم إلى الشوارع العامة. ففي نهاية الأسبوع الماضي، تمكن موكب احتجاجي كبير، شارك فيه آلاف المتظاهرين في شوارع مدينة سان بطرسبرج، متحدين بذلك قراراً حكومياً يقضي بمنع مظاهرتهم تلك، وتمكنوا من اختراق الطوق الأمني الذي ضربته عليهم قوات الشرطة، ومواصلة مظاهرتهم في شوارع وساحات ثاني أكبر المدن الروسية. يذكر أن هذه المظاهرة الشعبية الضخمة، نظمها تحالف "دروجايا روسيا" –أي روسيا الأخرى- وهو عبارة عن تحالف سياسي لعدد من الجماعات والتنظيمات السياسية المعارضة للرئيس بوتين. وتتزعم هذا التحالف عدة شخصيات معروفة مناوئة للكريملن، من بينها على سبيل المثال، رئيس الوزراء السابق، ميخائيل كاسيانوف، وبطل الشطرنج السابق، جاري كاسبروف. وقد ندد المتظاهرون بالرئيس فلاديمير بوتين، وبالسياسات التي تتبعها حكومة سان بطرسبرج. وبالطبع فقد تعرض الكثيرون منهم للضرب، بينما جرى اعتقال نحو 100 منهم. وكان كاسبروف قد خاطب المتظاهرين قائلاً: "أحييكم على تغلبكم على خوفكم وتجاوزكم له". ثم ترددت أصداء مشابهة لهذا الشعور الطاغي بالزهو والانتصار، في عدة مقالات وتعليقات أرسلها المعارضون إلى مختلف المواقع الإلكترونية المناوئة لبوتين وسياساته. وهناك ما يبرر هذا الشعور العام بالنصر. فقد كان هذا الموكب الأخير، أكثر نجاحاً بما لا يُقاس إلى ذلك الموكب السابق، الذي نظمه المتظاهرون في العاصمة موسكو، في شهر ديسمبر الماضي. وحينها كان قد تم منع متظاهري تحالف "روسيا الأخرى" من التقدم في موكبهم، وجرى تطويق الألفي متظاهر الذين تجمعوا، بواسطة قوة أمنية شرطية، قوامها 4 آلاف شرطي على الأقل، وأرغم المتظاهرون على الوقوف حيث هم، بعد أن تم تطويق المكان وفرض الحصار التام عليهم. ولكن عجزت الشرطة هذه المرة عن تكرار ما فعلته في موكب موسكو. وبسبب هذا النجاح الذي تحقق الآن، يخطط التحالف لتسيير موكب شبيه في العاصمة موسكو، خلال الشهر المقبل. وفي حين لا يزال لأفراد يتمتعون بحرية توجيه الانتقادات الشفهية للنظام، ولا تزال العديد من وسائل الإعلام، تتمتع بقدر ما من الاستقلال والحرية في نشر الآراء المناوئة والمستقلة، على رغم التهميش الكبير الذي تعرضت له هذه الصحف ووسائل الإعلام المناوئة -فإن عدة تعديلات دستورية قد تمت خلال الفترة ذاتها، بغية منح السلطات مزيداً من الصلاحيات لمنع المواكب والتجمعات السياسية. بل لقد ذهب مشرعو مدينة موسكو إلى أبعد من ذلك، بفرضهم قيوداً أكثر تشدداً، تقضي بضرورة حماية العاصمة، ضد أية أفعال أو أنشطة ذات طابع سياسي شقاقي مناوئ، فيما يبدو. وتنص التعديلات التشريعية المقترحة، على منع التجمعات السياسية حول المواقع التاريخية والأثرية والثقافية، إضافة إلى تحديد كثافة وحجم هذا التجمع، بحيث لا يتجاوز عدد المجتمعين في المتر المربع الواحد، الشخصين على أكثر تقدير! إلى ذلك تواصل السلطات رفضها المستمر لاستصدار الإذن الخاص بتنظيم الأنشطة والمناسبات في الشوارع العامة، لمجرد الشك في أن تكون لتك الأنشطة صبغة سياسية، بينما تستمر مضايقة المشاركين بانتظام، حتى في حالات صدور الإذن. وخلال الأشهر القليلة الماضية، تفوقت شرطة الساحات العامة، في تطبيقها لأساليب الاعتقال التحفظي السوفييتية، بينما حققت نجاحاً كبيراً في الحيلولة دون حضور مشاركين من الأقاليم والمحافظات للمناسبات السياسية التي تعقد في العاصمة موسكو أو في مدينة سان بطرسبرج. أما ما تبقى من حرية نشر وانتقاد لفظي للنظام، فيمكن تفسيره بأن حرية واستقلالية هذه الوسائل والصحف المناوئة على قلتها، تظل تحت رحمة النظام. وقد أكد الكريملن أن الصحف ووسائل الإعلام غير المملوكة للحكومة، إنما هي مملوكة لأفراد موالين لها. لذلك ومتى ما شعرت الحكومة بأن صحيفة أو مؤسسة إعلامية ما، تؤدي دوراً سلبياً ومؤثراً على الرأي العام، فإن لها من التخويل والصلاحيات، ما يمكنها من ترويض خطها التحريري. غير أنه تصعب جداً السيطرة على قوى الإرادة الشعبية. فما أن تفلت هذه من عقالها، حتى يصبح من الصعوبة بمكان، على أي "موالٍ" مهما كان، الوقوف أمام هذه الإرادة في محاولة للدفاع عن الأوامر الحكومية. وما "الثورة البرتقالية" التي شهدتها أوكرانيا سوى مثال واحد فحسب، على صحة ما ذهبنا إليه. وحتى الآن فإنه يتعذر التكهن بما إذا متظاهرو تحالف "روسيا الأخرى" سيتمكنون من تنظيم مظاهرتهم المقبلة في العاصمة موسكو. لكن وفيما لو فعلوا، فستواجه الشرطة الروسية معضلة ذات وجهين: أولهما أن الإجراءات القمعية التي اتخذت في مواجهة المظاهرة الأخيرة، لم تكن كافية لوضع حد لاستمرار تحدي التحالف وزعمائه للنظام. وثانيهما، أنه وفي حال لجوء الشرطة والسلطات، إلى أساليب محاكمة زعماء التحالف وسجن بعضهم، إلى جانب القمع الوحشي للمتظاهرين، فعندها ستواجه روسيا كلها خطر أن تغدو دولة بوليسية بالمعنى الحرفي للكلمة. وللأسف فإن هذا الاحتمال الأخير هو الأرجح، بالنظر إلى السياسات الحالية التي يتبعها الكريملن إزاء المعارضين. ماشا ليبمان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتبة ومحللة سياسية روسية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"